رونيه ديكارت: الشّكّ كتأمّل أوّل في الفلسفة
بعد تجلّي عُقم المنطق الأرسطيّ، وأنّه لا يستطيع مُجاراة الحقائق والاكتشافات الجديدة، ديكارت يعِوضه بمنهج رّياضيّ غيّرت الفكر الإنسانيّ قائم على أربعة خطوات تمثّلت في الشّكّ، التّحليل، التّركيب ثم التّحقّق.
محمد كزّو - الرباط -
كان همّ ديكارت منذ تخرّجه من مدرسة "لافليش"، تقديم فلسفة ومنهج جديدين، لأنّ ما قرأه من عِلم وأفكار فلسفيّة تعود للقرن الرّابع قبل الميلاد، لم يعد يستطيع تلبيّة حاجاته الفكريّة، فالمستند المسيحيّ، في عصره، هو السّكولائيّ الجدليّ في المنطق الأرسطيّ، وهو عبارة عن مقدّمتين ونتيجة، ثمّ قوانينه في الفكر: الذّاتيّة، عدم التّناقض، الثّالث المرفوع، ثمّ يمكن أن نلحق بهم قانون العِليّة، الذي يمكن أن يُدرس به الواقع الأنطولوجي، فـ «القوانين الأوّليّة للفكر ثلاثة؛ وهي: 1-قانون الذّاتية، وهو أنّ كلّ شيء هو هو، وبعبارة أخرى: كلّ شيء هو نفسه، 2-قانون التّناقض: وهو أن لا شيء يمكن أن يكون هو وليس هو. 3-قانون الامتناع: وهو أنّ الشّيء إمّا يكون أو لا يكون، أو: الشّيء إمّا أن يكون كذا أو غيره، وبعبارة أخرى: الشّيء إمّا أن يُجاب عنه بنعم أو بلا»(1).
عمومًا، بعد تجلّي عُقم المنطق الأرسطيّ، وأنّه لا يستطيع مُجاراة الحقائق والاكتشافات الجديدة، أعطى ديكارت عِوضه حلًّا قائمًا على المنهج الرّياضيّ، وهي أربعة خطوات غيّرت الفكر الإنسانيّ إلى أبعد مدى، تمثّلت في: 1-الشّكّ 2-التّحليل 3-التّركيب 4-التّحقّق.
في هذا السّياق، أتى كتابه "تأمّلات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى"، وفيها يبرهن على وجود الله وخلود النّفس، الذي نشره باللّاتينيّة أوّلًا، لأنّه كان موجَّهًا للخاصّة من العلماء والفلاسفة، سنة 1641م، ثمّ طبعة بالفرنسيّة راجعها ديكارت نفسه للدّوق دولوين، ابن وزير لدى المَلِك لويس الثّالث عشر. وأمّا الفلسفة الأولى، المقصودة في الكتاب، فهي فلسفة أرسطو: عِلم الموجود بما هو موجود، أي العِلم بالخصائص الجوهريّة للوجود.
كان المشكل عند ديكارت، هو أن نتبيّن متى يسوغ لنا إثبات الوجود؟ أو لنقل إنّ الميتافيزيقا الدّيكارتيّة، إنّما تهتمّ بالذّات التي تَعرِف والتي تُقرّر الوجود، أكثر ممّا تهتمّ بالموضوع الذي يمكن أن يعرف أو يكون موجودًا.
فاستعمل ديكارت التّأمّلات السّتّة التي يحتوي عليها الكتاب، بمنطق الشّكّ القائم على الافتراض التّالي: لا يوجد تطابق بين الفكر والواقع، ويجب البحث بمنهج على يقين يكون فيه هذا التّطابق موجودًا: وهو "الكوجيطو" أي العودة إلى الذّات، وهذا هو المنطلق الحقيقيّ للمعرفة.
بدأ ديكارت كتابه "التّأمّلات"، بإهداء إلى العمداء والعلماء بكلّية أصول الدّين المقدّسة بباريس، ولكنّه في الحقيقة تجاوز الإهداء إلى شبه مقدّمة، ظهر فيها ديكارت تلميذًا مسيحيًّا مؤمنًا إلى أبعد الحدود، ولا عجب أنّ الإهداءله سبب وجيه هو محاكمة جاليليو جاليلي على فكرة مركزيّة الشّمس ودوران الأرض؛ فنلاحظ فيه الخوف الشّديد لديكارت من هذه المؤسَّسة الكنسيّة الدّينيّة، التي تتبنّى المنطق الأرسطيّ، الذي سينتقده ديكارت بين ثنايا كتابه "الـتّأمّلات".
إذ استهلّ ديكارت، مباشرة في إهدائه الحديث عن الله، وعن خلود النّفس، وعن إيمانه طبعًا، إذ يقول: "لقد كان رأيي دائمًا أنّ مسألتي الله والنّفس، أهمّ المسائل التي من شأنها أن تبرهن بأدلّة الفلسفة، خيرًا ممّا تبرهن بأدلّة اللّاهوت: ذلك إنّه، وإن كان يكفينا نحن معشر المؤمنين، أن نعتقد بطريق الإيمان بأنّ هنالك إلهًا، وبأنّ النّفس الإنسانيّة لا تفنى بفناء الجسد، فيقيني أنّه لا يبدو في الإمكان، أن تقدر على إقناع الكافرين بحقيقة دين من الأديان، بل ربّما بفضيلة من الفضائل الأخلاقيّة، إن لم نثبت لهم أوّلًا هذين الأمرين بالعقل الطّبيعيّ»(2).
ثمّ استشهد بنصوص من الكتاب المقدّس، ضدّ الكافرين الذين يجحدون وجود الله، دليلًا منه على إيمانه الكبير، وعلى عِلمه وواسع اطّلاعه بالأمور الدّينيّة، فاسترسل بالحديث عن وجود الله، وعن النّفس الإنسانيّة التي لا تفنى بفناء الجسم، كما يعتقد الملحدون؛ وأنّه سيقدّم براهين وحجج تعتمد على الفكر والفلسفة، وخصوصًا البراهين الرّياضيّة، يقول في هذا الصّدد: «أيّها السّادة: مهما يكن في الحجج التي أسوقها من قوّة، فلست آمل، نظرًا لانتسابها إلى الفلسفة، أن يكون لها أثر كبير على الأذهان إذا لم تشملوها برعايتكم؛ ولمّا كان لجماعتكم من تقدير النّاس كلّهم حظّ عظيم، ولمّا كان لاسم "السّوربون" عن علوّ المنزلة، ما جعل النّاس لا يقابلون أحكام أيّ جماعة أخرى، بعد المجامع المقدّسة، بمثل الاحترام الذي يقابلون به أحكام جماعتكم»(3).
ليخلص في نهاية إهدائه، إلى أنّه مسبقًا سيلتزم بالموقف الذي سيصدر عن علماء اللّاهوت كيفما كان، سواء بعدم نشر الكتاب، أو تصحيحه، أو إضافة شرح فيه، أو تغيير في بعض أفكاره، بحيث إنّه يسعى كما تسعى الكنيسة، إلى ألّا يوجد شخص واحد يتجرّأ على الشّكّ في وجود الله، وفي التّمييز الواقعيّ الحقيقيّ بين نفس الإنسان وبدنه.
كان إهداء ذكيًّا –كما وصفه المتخصّصون- بِحيلة انطوت على رجال الدّين، إذ كان ديكارت يهدف هدم المنطق الأرسطيّ، ولا علاقة له بالإيمان، ولكن اضطرّ الدّخول من باب الإيمان، ليخرج سالمًا من باب العِلم، وهو ما كان.
بعد الإهداء، يكتب ديكارت تصديرًا إلى القارئ سمّاه "تصدير من المؤلِّف إلى القارئ"، عالج فيه هو الآخر مسألة الله والنّفس، وأنّه ذَكَرها في كتابه "مقال عن المنهج" بأُنس، يقول عن هذه الفكرة: «فقد خيّل إليّ دائمًا، أنّ لهما من عظم الشّأن، ما يسوّغ الحديث عنهما أكثر من مرّة، بما يقتضيه المقام، ولقد التزمت في شرحهما سبيلًا قلّ سالكوه»(4)، وفي السّياق ذاته، تحدّث عن الاعتراضات التي وُجّهت إليه، من طرف ثلّة من العلماء والفلاسفة، أمثال "توماس هوبز"، والتي لم تكن –حسب ديكارت- ذات أهمّيّة كبرى إلّا اثنين منها، تعلّقَ الأوّل "بالكوجيطو"، والثّاني بوجود الأكمل من النّفس المُفكِّرة أي التي تُفكِّر، فالفكرة –هنا- عند ديكارت ليست عمليّة من عمليّات الذّهن، بل هي الشّيء الذي تُمثِّله هذه العَمليّة من التّفكير؛ ويقصد الحديث عن الله الضّامن للحقيقة، بما إنّ الإنسان شيء غير كامل، فحتمًا يوجد من هو أكمل.
وهذا يخالف ما يستدلّ به الملحدون، من كون الله عبارة عن انفعالات إنسانيّة سهلة الإدراك، وللعقل من القوّة والحكمة ما يستطيع به الإحاطة بأفعال الله، في هذا الخصوص، يقول ديكارت: «من أجل هذا لن نجد عناء في نقض أقاويلهم، بشرط أن نذكر أنّ من الواجب علينا اعتبار أذهاننا أشياء متناهية ومحدودة، واعتبار الله موجودًا لا متناهيًا، ولا سبيل إلى الإحاطة به»(5).
ليختم ديكارت تصديره، بأنّه سيتحدّث من جديد، عن ثنائيّة وجود الله وخلود النّفس بتوضيح أكثر، واضعًا بالجانب أسس الفلسفة الأولى، وينصح بقراءة كتابه للذين يستطيعون تجريد أنفسهم من مخالطة الحواسّ، والابتعاد عن الأحكام المسبقة.
بعد الإهداء والتّصدير، يكتب ديكارت موجزًا للتّأمّلات السّتّة، ففي التّأمّل الأوّل الذي سنركّز عليه–وهو موضوع مقالتنا- تناول فيه الأسباب التي تجعل في استطاعتنا أن نشكّ، على العموم في الأشياء كلّها خاصّة المادّيّة منها؛ لأنّ الشّكّ يمهّد لنا التّخلّص من ضروب الأحكام السّابقة، وينفعنا في التّجرّد عن الحواس، وأخيرًا يجعلنا نتيقّن من عدم الشّكّ مستقبَلًا في الأشياء التي تأكّدنا من صحّتها.
كان منهج ديكارت هو الشّكّ في الأشياء التي يمكن أن توضع موضعه، ومنها الأشياء جميعها قدر الإمكان، ومن هذا الأساس، يقول: "تبيّنتُ من أنّني منذ حداثة سنّي، قد تلقّيتُ طائفة من الآراء الباطلة، وكنت أحسبها صحيحة، وأنّ ما بَنَيْتُه منذ ذلك الحين على مبادئ هذه حالها من الزّعزعة والاضطراب، لا يمكن أن يكون إلّا شيئًا مشكوكًا فيه جدًّا، ولا يقين له أبدًا"(6).
لأجْل هذا، يجب أن نضع موضع الشّكّ، ولو لمرّة واحدة، معروضات الحواسّ والأوهام والأحلام، والأشياء العامّة، يقول ديكارت: «فحكمتُ حينئذ، بأنّه لا بدّ لي مرّة في حياتي، من الشّروع الجدّي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقّيتها في اعتقادي من قبل، ولا بدّ من بدء بناء جديد من الأسس، إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئًا وطيدًا»(7)، لذا يسعى ديكارت لمواجهة المبادئ المؤسِّسة للمعرفة القديمة، لأنّه بتقويض الأسس سينهار البناء؛ عكس مواجهة الأفكار كلّ واحدة على حدة، فعلى حدّ تعبيره، في هذه الحالة سيكون عملًا لا آخر له.
وأما المعروضات الخاصّة للحواسّ فأساسها البصر، ومنها الألوان والأشكال والحجوم وغيرها، وأمّا أوهام الأحلام فهي ليست الخيالات التي يتخيّلها بعضهم، وينسج على منوالها، مثل كونهم ملوكًا وأجسامهم من زجاج فهذا حمق وخبل، بل هي الأحلام التي تستقيم وطبيعة الإنسان البشريّة التي يعتريها النّوم. فكيف سيفرّق ديكارت بين حالة اليقظة؟ التي يوجد فيها قرب النّار مرتديًا ملابسه، يكتب على ورقة محرِّكًا رأسه، وبين حالة النّوم؟ التي يرى فيها الأشياء ذاتها، ولكنّه على سريره متجرّدًا من ثيابه؛ الجواب، سيكون تلك الأشياء العامّة التي تكون نماذج لتلك الأفكار الخاصّة، فمِن أين سيراها في المنام؟ إن لم تكن لها صورة حقيقيّة في الواقع.
وعليه، فالعناصر العامّة التي كان يستطيع خيالنا أن يكوّن منها هذه الأشياء العامّة، التي تعني عند ديكارت الجسم والعينين والرّأس واليدين وما شابه ذلك، يمكن أن تكون خياليّة، والنّتيجة وجود أشياء أخرى أبسط وأشمل منها هي حقيقيّة وموجودة، منها الامتداد والشّكل والكمّ والمقدار والعدد والمكان والزّمان وما شابه؛ لنلاحظ هنا، تحوّل ديكارت من الفلسفيّ إلى العِلميّ، ناسفًا المنطق الأرسطيّ ومقدّماته العقيمة.
وفي الصّدد نفسه، ينفي هذا الشّكّ عن البراهين الرّياضيّة، التي تشتمل على يقين لا سبيل إلى الشّكّ فيه، فمجموع زوايا مثلّث هي مائة وثمانون درجة، سواء كنت نائمًا أم مستيقظًا، ومجموع ثلاثة واثنين هو دائمًا خمسة، والمربّع لن يزيد على أربعة أضلاع أبدًا، يقول ديكارت مؤكِّدًا: «وليس في الإمكان، أنّ حقائق قد بلغت هذه المرتبة من الوضوح والجلاء، يصحّ أن تكون موضع شبهة خطأ أو انعدام يقين»(8).
ثمّ، يجب النّظر إلى الأشياء جميعها، كونها مشكوك فيها وباطلة كذلك، بوجود شيطان ماكر يريد تضليلنا، ومع ذلك، رسخ في معتقد النّاس، منذ زمن طويل، أنّ إلهًا قادرًا على كلّ شيء سبحانه كريم رحيم، و"ممّا يتنزّه عنه الله، واسع الكرم والرّحمة، أن يكون قد خلقني عرضة لضلال مقيم، فيبدو كذلك، ممّا لا يليق بمقامه، أن يأذن بوقوعي في الضّلال أحيانًا، وليس في استطاعتي أن أشكّ، في أنّ هذا يقع بإذنه"(9).
قد يوجَد من ينكر وجود الله، ويعتمد على القضاء والقدر أو الصّدفة أو حتّى الأسباب والمسبّبات، ولكن ما دام الخطأ والنّقص موجودين، فلَن يصدرا عن إله كامل، وإلّا كان نقصي يزيد ويزيد إلى ما لا نهاية، مُعرِّضًا الإنسان إلى الضّلال الأبديّ.
لذا، يقترح ديكارت فكرة الشّيطان الماكر المستحوذ على الحقيقة، ويقابلها برحمة الله وكرمه، لا لشيء سوى أن يتبيّن –وبالأحرى أن يُبيّن للجاحدين- للأبد الفرق بين النّقص والكمال؛ وإنْ أخذ هذا الشّيطان السّماء والأرض والهواء والألوان والأشكال والأصوات والجسم الإنسانيّ وكلّ شيء، فلن يستطيع أن يأخذ النّفس من الواقع الموضوعيّ أبدًا، وهذا هو موضوع التّأمّل الثّاني، الذي يستدعي تناوله في مقالة كاملة.
الإحالات والهوامش
(1) مبادئ الفلسفة، أ. س. رابوبرت، ترجمة أحمد أمين، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ط1/2014م، ص:35.
(2)تأمّلات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، تصدير مصطفى لبيب، المركز القومي للترجمة، العدد 1297، ط1/2009م، ص:44.
(3)المرجع نفسه، ص:45. وكلمة "السّوربون" الموجودة في هذا الاقتباس، هو اسم جامعة وسط مدينة باريس، تأسّست أواخر القرن الثّاني عشر ميلادي (1150م).
(4)المرجع نفسه، ص:47.
(5)المرجع نفسه، ص:50.
(6)المرجع نفسه، ص:71.
(7)المرجع نفسه، والصفحة.
(8)المرجع نفسه، ص:77.
(9)المرجع نفسه، ص:77-78.
ـــــــــــــــــــــــــ
(*) ميدل ايست / 2022/09/16
تعليقات
إرسال تعليق
أكتب تعليقا اذا كنت تريد نشر شيء معين أو تريد تنويرنا بفكرة.